بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
...
من حِكم الله تعالى أن جعل موازين ومخابر (مختبرات) تعرض عليها الدعاوى الصادرة من الأفراد حتى يتميز الصادق في دعوته من غير الصادقين .
فالذهب قد يكون مغشوشا، أو داخله بعض الشوائب فيعرضه صاحبه على الصائغ المختص فيكشف حقيقته هل هو خالص أم أنه ما زال تحت شائبة الشوائب، فإن لم يكمل تخليصه وضعه الصائغ في فرن حار، وصبغه بما يناسبه من المواد، فلا يزال في الفرن تحت حرارة النار حتى تذهب تلك الشؤائب ويعود ذهبا إبريزا...
والطالب لما ادعى طلبه للعلم كان لا بد من اختباره من معلمه، فيدخله قاعة الامتحان ويسأله أسئلة، ثم يعرفه معلمه كم هي علامته...
لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يعرض كل مدع على محك الامتحان ، فالمرء لما ادعى الإيمان من نفسه عرضه الله تعالى على المختبر ليتعرف صدقه من كذبه، ولولا هذه الدعوى لما عرضه على محك الاختبار، قال تعالى: أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون، فلو لم يدعوا الإيمان لم يكن هناك اختبار .
لذلك أيها المريد؛ لا بد من اختبارك من قبل الله تعالى ليعلم صدق دعواك الإرادة، فيعرضك على شواهد الامتحان لتشهد لك بما انطوت عليه نفسك، فإن كنت ذا صدق في الدعوى، ولك رصيد من المحبة، والاخلاص في الطلب تثبت على هذه الاختبارات، حتى تنقضي عنك مدة الامتحان.
وإن كنت على غير هذا انقلبت على عقبيك عند أول هزة...
قال الجنيد رضي الله عنه: كنت نائماً بين يدي السري فأيقظني وقال لي: يا جنيد؛ رأيت كأني وقفت بين يديه، فقال لي: يا سري؛ خلقت الخلق فكلهم أدعوا محبتي، فخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، فخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين معي: لا الدنيا أردتم ، ولا الجنة أخذتم ، ولا من النار هربتم، فما تريدون؟ قالوا: إنك تعلم ما نريد، فقلت: إني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم، ما لا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون ؟؟؟ قالوا : إن كنت أنت المبتلي فافعل ما شئت، هؤلاء عبادي حقاً..
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: ما أظهر عبد فاقة إلى الله في شيء إلا قال الله تعالى للملائكة: لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته: لبيك... لبيك اهـ
فإذا طلبت أيها المريد الدخول مع الأحباب فقف ذليلاً حتى يفتح لك الباب، ويرفع بينك وبينه الحجاب.
قال الششتري رضي الله عنه:
إن ترد وصلنا فموتك شرط ... لن ينال الوصال من فيه فضله
وقال أيضاً:
ليس يدرك وصالي كل من فيه بقيا...
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لا يصل الولي إلى الله تعالى ومعه شهوة من شهواته أو تدبير من تدبيراته واختيار من اختياراته .
ومثال النفس كالفحمة، كلما غسلتها بالصابون زاد سوادها، فإذا اشتعلت فيها النار، ونفخ فيها الريح، كستها النار ولم يبق للون الفحمة أثر، والنار التي تحرق البشرية هي مخالفة الهوى، وتحمل النفس ما يثقل عليها كالذل والفقر، وأذى الخلق، والجفاء من الحبيب، ونحوها ...
قال الأوزاعي: سألتُ خصيلة بنت واثلة بن الأسقع : ما سمعت أباك ، يقول لما حضرته الوفاة ؟ قالت : دعاني ، فأخذ بأصابع يدي فقال : يا بنية اصبري، حتى عد أصابعي الخمس ، ثم أخذ بيساري فقال : يا بنية اصبري ، حتى عد أصابعي الخمس .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ابتلي فصبر ، وأعطي فشكر وظُلم فغفر ، وظَلم فاستغفر، ثم سكت قالوا : ما له يا رسول الله ؟ قال : أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
قال أبو الدرداء: إن الدنيا خوانة لا يدوم نعيمها ، ولا يؤمن فجائعها ، ومن يعش يُبتلَ ، ومن يتفقد يُفقد ، ومن لا يعد صبرا لفجائع الأمور يعجز .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم أمراً لا تستطيعون أن تغيروا ، فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره .
والفرق بين الرضا والصبر : أنَّ الصَّبر : كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم ، وتمنِّي زوال ذلك ، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا : انشراح الصدر وسعته بالقضاء ، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم ، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم ، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرِّضا ، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .
ويُروى عن أنس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة ، وإذا قتلته كان لك نوراً ، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك .
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه : إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسك التي بين جنبيك .
فهذا الجهاد يحتاجُ أيضاً إلى صبر ، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه ، وحصل له النصر والظفر ، وملَكَ نفسه ، فصار عزيزاً ملكاً ، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر ، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه، كما قيل :
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه ... بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ
[center]
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
...
من حِكم الله تعالى أن جعل موازين ومخابر (مختبرات) تعرض عليها الدعاوى الصادرة من الأفراد حتى يتميز الصادق في دعوته من غير الصادقين .
فالذهب قد يكون مغشوشا، أو داخله بعض الشوائب فيعرضه صاحبه على الصائغ المختص فيكشف حقيقته هل هو خالص أم أنه ما زال تحت شائبة الشوائب، فإن لم يكمل تخليصه وضعه الصائغ في فرن حار، وصبغه بما يناسبه من المواد، فلا يزال في الفرن تحت حرارة النار حتى تذهب تلك الشؤائب ويعود ذهبا إبريزا...
والطالب لما ادعى طلبه للعلم كان لا بد من اختباره من معلمه، فيدخله قاعة الامتحان ويسأله أسئلة، ثم يعرفه معلمه كم هي علامته...
لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يعرض كل مدع على محك الامتحان ، فالمرء لما ادعى الإيمان من نفسه عرضه الله تعالى على المختبر ليتعرف صدقه من كذبه، ولولا هذه الدعوى لما عرضه على محك الاختبار، قال تعالى: أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون، فلو لم يدعوا الإيمان لم يكن هناك اختبار .
لذلك أيها المريد؛ لا بد من اختبارك من قبل الله تعالى ليعلم صدق دعواك الإرادة، فيعرضك على شواهد الامتحان لتشهد لك بما انطوت عليه نفسك، فإن كنت ذا صدق في الدعوى، ولك رصيد من المحبة، والاخلاص في الطلب تثبت على هذه الاختبارات، حتى تنقضي عنك مدة الامتحان.
وإن كنت على غير هذا انقلبت على عقبيك عند أول هزة...
قال الجنيد رضي الله عنه: كنت نائماً بين يدي السري فأيقظني وقال لي: يا جنيد؛ رأيت كأني وقفت بين يديه، فقال لي: يا سري؛ خلقت الخلق فكلهم أدعوا محبتي، فخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، فخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين معي: لا الدنيا أردتم ، ولا الجنة أخذتم ، ولا من النار هربتم، فما تريدون؟ قالوا: إنك تعلم ما نريد، فقلت: إني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم، ما لا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون ؟؟؟ قالوا : إن كنت أنت المبتلي فافعل ما شئت، هؤلاء عبادي حقاً..
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: ما أظهر عبد فاقة إلى الله في شيء إلا قال الله تعالى للملائكة: لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته: لبيك... لبيك اهـ
فإذا طلبت أيها المريد الدخول مع الأحباب فقف ذليلاً حتى يفتح لك الباب، ويرفع بينك وبينه الحجاب.
قال الششتري رضي الله عنه:
إن ترد وصلنا فموتك شرط ... لن ينال الوصال من فيه فضله
وقال أيضاً:
ليس يدرك وصالي كل من فيه بقيا...
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: لا يصل الولي إلى الله تعالى ومعه شهوة من شهواته أو تدبير من تدبيراته واختيار من اختياراته .
ومثال النفس كالفحمة، كلما غسلتها بالصابون زاد سوادها، فإذا اشتعلت فيها النار، ونفخ فيها الريح، كستها النار ولم يبق للون الفحمة أثر، والنار التي تحرق البشرية هي مخالفة الهوى، وتحمل النفس ما يثقل عليها كالذل والفقر، وأذى الخلق، والجفاء من الحبيب، ونحوها ...
قال الأوزاعي: سألتُ خصيلة بنت واثلة بن الأسقع : ما سمعت أباك ، يقول لما حضرته الوفاة ؟ قالت : دعاني ، فأخذ بأصابع يدي فقال : يا بنية اصبري، حتى عد أصابعي الخمس ، ثم أخذ بيساري فقال : يا بنية اصبري ، حتى عد أصابعي الخمس .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ابتلي فصبر ، وأعطي فشكر وظُلم فغفر ، وظَلم فاستغفر، ثم سكت قالوا : ما له يا رسول الله ؟ قال : أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
قال أبو الدرداء: إن الدنيا خوانة لا يدوم نعيمها ، ولا يؤمن فجائعها ، ومن يعش يُبتلَ ، ومن يتفقد يُفقد ، ومن لا يعد صبرا لفجائع الأمور يعجز .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم أمراً لا تستطيعون أن تغيروا ، فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره .
والفرق بين الرضا والصبر : أنَّ الصَّبر : كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم ، وتمنِّي زوال ذلك ، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا : انشراح الصدر وسعته بالقضاء ، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم ، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم ، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرِّضا ، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .
ويُروى عن أنس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة ، وإذا قتلته كان لك نوراً ، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك .
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه : إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسك التي بين جنبيك .
فهذا الجهاد يحتاجُ أيضاً إلى صبر ، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه ، وحصل له النصر والظفر ، وملَكَ نفسه ، فصار عزيزاً ملكاً ، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر ، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه، كما قيل :
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه ... بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ
[center]