بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله وسلّم على الحبيب وآله وصحبه أجمعين
صاحب الموضوع : الاخ على الصوفي -- منتدى روض الرياحين
وبعد :
فقد أحببت أن أحيّيك بباقات من ورود المعاني بديعة , وأهديك محابا من القلب تسير على حياء بين يديك شفيعة , فإن الفضل بين الإخوان الكرماء يبقى ببقاء الزمان وديعة , يردّها أولو الفضل منهم كلّما سنحت لهم الفرصة وإنشرح لهم الوقت ولو كانت بضاعتهم مزجاة وضيعة
فإن خير ما تصاحب فيه أخوان , وتعاشر فيه خلاّن , إلتفافهم في وصف العبيد على موائد معارف الإحسان , وأطايب ثمار الإيمان , فمازال ساداتنا في مجالس أنسهم يتباسطون ويتسامرون , وفي مقاعد هيبتهم يتواعظون ويتناصحون , وقد أحببت أن أكتب لك من مداد القلب أذواقا , وبماء العين حنينا وأشواقا , فإنّهما حسان جيادي , ومربط فرس بغيتي ومرادي , إذ أجدها الوسيلة الحاضرة في مواصلتك , نائبة عن يميني التي ما نالها إلى الآن كرامة شرف مصافحتك , وإن كانت الأرواح مجتمعة في عالم سمائها , فنرجو أن تقتفي أثرها الأجسام في تحقيق وفائها وولائها , وإنّ للفتيان بالقوم غرام قديم , حيثما إرتحلوا أو كان كائنهم في الأقاليم , وحيث وجدوا روائح طيب فؤاد حميم , أو إستنشقوا عبق نفحات الرحيم , أو تشنّفت أسماعهم بهمسة حبّ من قلب سليم
وها إني إن شاء الله أطرّز لك بردة من المحاب المنمّق بالسندس البهيج , فتهبّ عليه رياح الصبا بطيب الأريج , فتسمو به سالكة أقوم المعاريج
وما غايتي في ذلك إلا نشر نفحات الأذواق , بعد أن جفّت المحابر فكتبنا بمداد محبرة الأحداق , إذ أنّها كحل العين , إذ ينتفي هناك الأين , والغين .
إعلم سيدي الحبيب أنّ قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام فيها من العلوم والحقائق ما يعجز عن فهمه الكثير من أصناف الخلائق ويكفي أنّها دليل حيّ على رفعة الهمم في طلب العلم وأنّ العلم وخاصّة منه علم المعارف والحقائق يدفع من أجله الغالي والثمين والأجساد والأكباد ولذا كانت الجنّة غالية المهر لأنّها سلعة ثمينة قال تعالى : ( افحسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) فإذا كان هذا ثمن الجنّة بما بالك بثمن ومهر العلوم الربانية والحقائق العليا المصونة فإنها أغلى ما أتحف الله به عباده الصالحين ( واتّقوا الله ويعلّمكم الله ) إتّقوا الله شريعة ويعلّمكم الله حقيقة ( ومن يتّق لله يجعل له مخرجا ) أي في كلّ لون من ألوان علوم الحقيقة بتلك التقوى التي هي الشريعة والمخرج هو حقيقة مقام البقاء لأنّه مقام شرعي وهو يتحقّق بعد الفناء لذا قال ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ) : التقوى : أدخلني مدخل صدق , العلم : أخرجني مخرج صدق , وإنّما ماذكر المدخل تصريحا لأنّه كنّى عنه بالتقوى على شرط الصدق , فصرّح بالمخرج دون المدخل لأنّ المخرج هو الظهور في العوالم وأنت متحقّق بأوصافه متخلّقا بها أعني أوصاف الجمال لأنّ الخروج إلى عالم البقاء هو وصف جمالي وهو مقام الخصوصية وهو صورة الحضرة المحمدية بل قل عينها من حيث حقيقة النبي صلى الله عليه وسلّم أمّا المدخل فهو البطون فما الشريعة التي هي التقوى إلا للفناء وأمّا البقاء فهو خروج الحقيقة متحلّية بوصف الشريعة بعدما خرجت من جديد وبعثت من بعد موتها في حلية الحقيقة فكانت الشريعة هي فناء البقاء والحقيقة هي بقاء الفناء , والغلبة للحقيقة والحجّة للشريعة وإن شئت عكست الأمر لأنّه ربّ المشارق والمغارب وكذلك فهو ربّ المشرق والمغرب وكذلك ربّ المشرقين وربّ المغربين لذا أخبرك بإحاطته علما
هنا صار اللقاء بين موسى والخضر بين مقامين : مقام موسى : وهو الفناء بالبقاء وبه حاجج
مقام الخضر : وهو البقاء بالفناء وبه غلب
فكانت أمواج الحقائق تتلاطم فيما بينهما وفي تلك الآيات التي سنحاول أن نخرج منها زبدا وعسلا لذّة للشاربين لأنّ ساقي القوم يدور على الحضور فسقانا بعد أن أماتنا وأحيانا (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي) وآه على أسرار القرآن العظيم وعلى درره وفهومه وعلومه وخمرته ولطائفه وصدقه وغوره وسطوته ... كيف لا وكيف لا يكون وهو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من الله الحكيم الحميد
فكانت قصّتهما مشهدا قدسيّا فريدا في مقام الفتوّة وصفاء النظر والأدب والحكمة والعلم والفهم والصدق والمحبّة فيا لله على سيدنا موسى وعلمه ويا لله على سيدنا الخضر وفهمه
وقصّتهما خمرة زلالية تسقى كؤوسها من حضرتيهما
هنا سيدي إلتقت القطبانية مع الفردانية , والتصريف مع الإرشاد , التربية مع الإرادة , والعلم مع الحكمة , والجذب مع الصحو , والبقاء مع الفناء , وسنخرج بحول الله أذواقا ونصنع منها نمارق مصفوفة وسرر منضودة
هذا لتعلم غور فهومات أهل الله وتحقّقهم بخمرة جذب الإله وأنّ الأمر عظيم جلل , ورحمة الله سبقت الأجل فكان العالم من حيث حقيقة مرحوما ومن حيث حقيقة أخرى قسمين شقيّا وسعيدا ,
ثمّ التلوّن في الحقائق وبها وصف العبيد للأنّهم يدورون مع الحقّ حيثما دار والله تعالى يقول ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) فإذا وقفت على هذه الحقيقة كانت دليلك على غيرها مما تهواه أو تعتقده وتسلكه أو تميل إليه فمتى غاب دليلك كثر جهلك وظهرت دعاويك
فإنّنا والله لا نشاهد غير خزائن الفضل مفتوحة ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) بلا تحجير عليه فافهم
وسنشرع إن شاء الله في فضّ أبكار الحور , بمحض النور
يتبع...