خادمة الحبيب المصطفى- Admin
- عدد المساهمات : 658
تاريخ التسجيل : 01/11/2012
من طرف خادمة الحبيب المصطفى الأربعاء نوفمبر 28, 2012 11:53 am
هل تجوز التعددية السياسية في الدولة الإسلامية؟
التعدد في اللغة: الكثرة وعدم التفرد، قال الفيومي: "التَّعَدُّدُ" الكثرة. المصباح المنير [ع د د].
والسياسة في اللغة: التدبير والمراعاة للشيء، قال الفيومي: "وَسَاسَ زَيْدٌ الأَمْرَ يَسُوسُهُ سِيَاسَةً، دَبَّرَهُ وَقَامَ بِأَمْرِهِ. المصباح المنير [س وس].
فالتعددية السياسية المقصود بها كثرة الآراء السياسية المنبثقة في لغالب عن طريق ما يسمى بالأحزاب السياسية.
وكل حزب يتكون من مجموعة من الناس لهم آراء متقاربة حول قضايا عامة، ويحاول كل حزب أن يطبق هذه الآراء، عن طريق التمثيل النيابي أو الوزاري أو حتى عن طريق الوصول لأعلى سلطة في الدولة إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الخلاف:
والاختلاف أمر كوني، قال الله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ [هود: 118]، والناس ليسوا كحلقة مفرغة لا يُعلم أين طرفاها، فطبيعة الناس الاختلاف، وقد حدث الخلاف بين الأنبياء، وقد ذكر الله ذلك في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث، وفي قصة موسى مع هارون في قصة عبادة بني إسرائيل للعجل.
ولو كان الناس على رأي واحد ما شرع الله جل وعلا الشورى ولا أمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال جل شأنه في وصف المؤمنين: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ [الشورى: 38], وقال لنبيه: ﴿فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾[آل عمران: 159].
والخلاف إن كان داخل مجلس الشورى فلا شك في جوازه، وهو لازم من الشورى المأمور بها شرعا. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشاور أصحابه، فكانت أحيانا تأتي من غير طلب، كما في قصة الحباب بن المنذر في غزوة بدر، وقصة أم سلمة في صلح الحديبية، وقد تكون من غير طلب لكنها معارضة لما عليه رأي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في معارضة عمر -رضي الله عنه- لصلح الحديبية، وكذا في الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين، وقد تكون متعارضة بين فريقين أو أكثر من المسلمين فيختار النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدها، وذلك كما في قصة أسارى بدر، وكما في قصة الخروج للقاء قريش يوم أحد، وكما في قصة المشورة حين فرت عير قريش قبل اللقاء يوم بدر. وقد تكون بطلب لكنَّ رأي أهل الشورى يخالف رأي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في قصة مشاورته للسعدين -سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- في إعطاء بعض الأحزاب ثلث تمر المدينة مقابل الانصراف عن حصارهم للمدينة يوم الخندق فرفضا ذلك فأخذ برأييهما.
وأما إن كان خارجا عن مجلس الشورى، فله احتمالات؛ منها: أن يكون لجماعة من المسلمين رأي تتحقق به مصلحة طائفة لهم، وهذا جائز إذ لا مانع شرعا من أن يَصِلَ المسلم إلى تحقيق مصلحة له، فإن كانت المصلحة تخص جماعة لا فردا فلا شك في تأكد الجواز، وإنما قد يأتي ما يعارض الجواز من خارج.
هل الشرع أمر بنظام سياسي معين؟
والناظر في طريقة نقل السلطة في العصر الأول يرى أن الشرع لم يأت بشيء صريح في ذلك، شأنه في ذلك كشأنه في القضايا التي هي محتملة للتغيير، ويظهر ذلك في تغير نقل السلطة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينص على الخليفة من بعده، ولذا قام النزاع في السقيفة، واختار المسلمون أبا بكر رضي الله عنه، ثم قام أبو بكر بتعيين عمر بن الخطاب خليفة من بعده، ثم قام عمر بتعيين ستة ينتخب منهم واحد. وهذا يدل على سعة الأمر في طريقة التعيين، وأنه يجوز إظهار بدائل جديدة لا تخرج عن جوهر الأحكام الشرعية في هذا الأمر، فطريقة تعيين الخليفة الأول والثاني والثالث تُبَيِّن أنه ليس هناك نظام معين في ذلك من قِبَلِ الشرع، والفقهاء بَنَوا آراءهم الفقهية على ما تم حدوثه، ولم يَتَعَدَّوه.
أدلة التعددية السياسية:
التعددية السياسية لم يأت ما ينفيها، بل ورد ما يعضدها، فمن ذلك: موقف الأنصار من الغنائم يوم حنين، وقصة سعد بن عبادة؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: «لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وَجِدُوا عليك في أنفسهم لِمَا صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا؟ قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فَرَدَّهُم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. قال: فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...». وذكر تمام الحديث كما في مسند أحمد (3/ 76).
ووجه الدلالة: أن الأنصار اتخذت موقفًا فأصابهم وأقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على اتخاذ الموقف، ثم حاورهم في لب الأمر.
- وفي حديث البخاري عن الْمِسْوَر: "أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ".
فقوله: "فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ" دليل على التعددية السياسية متمثلة في هؤلاء الستة، ثم تفرق الناس فيهم، فاتبعت كل طائفة منهم واحدا من الستة يطؤون عقبه لميلهم إليه، أو الاستماع إليهم بحيث ينتج قرار التصويت بعد علم ورَوِيَّةٍ.
- وفي الصحيحين في قصة صلح الحديبية: «قال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فَلِمَ نُعْطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أَنَّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومُطَوِّفٌ به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟! قال: بلى. قلت: ألَسْنَا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بِغَرْزِهِ فوالله إنه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبَرَكَ أنك تأتيه العام؟! قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومُطَوِّفٌ به».
فموقف عمر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، يدل على التعددية السياسية الواضحة، مع المراجعة مع ولي الأمر فَمَنْ دونه، لكن مع عدم التشغيب على الحاكم، فالتعددية السياسية مطلوبة من خلال مجلس الشورى، أو ما يشبهه ويقوم مقامه.
- وفي البخاري في قصة مقتل عمر: "فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة! قال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدَّعي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوك تحبان أن تَكْثُرَ العُلُوج بالمدينة- وكان العباس أكثرهم رقيقا.
وفي شرح الحديث لابن حجر: "قوله: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة" في رواية ابن سعد من طريق محمد بن سيرين عن ابن عباس: "فقال عمر: هذا من عمل أصحابك، كنت أريد أن لا يدخلها عِلْجٌ من السبي فغلبتموني". وله من طريق أسلم مولى عمر قال: "قال عمر: من أصابني؟ قالوا: أبو لؤلؤة -واسمه فيروز- قال: قد نهيتكم أن تجلبوا عليها من علوجهم أحدا فعصيتموني". ونحوه في رواية مبارك بن فضالة، وروى عمر بن شبة من طريق ابن سيرين قال: "بلغني أن العباس قال لعمر لما قال: لا تُدخِلُوا علينا من السبي إلا الوصفاء: إن عمل المدينة شديد لا يستقيم إلا بالعلوج". فتح الباري (7/ 64).
وهذا نموذج على مراجعة الإمام في ما يعتقد أن فيه مصلحة، واستجابة الإمام لهم إن غلب على رأيه صحة ما تطلبه بعض الفئات المستفادة من تشريع ما يحقق لها مصلحة.
وينبغي لمن يدلي بصوته أن يتقي الله في صوته، ويتحرى مصلحة الأمة ما استطاع، قال تعالى: ﴿ستكتب شهادتهم ويسئلون﴾ [الزخرف: 19]، وليعلم أن هذا الأمر من النصيحة، وقد ورد في الحديث الشريف عن تميم الداري «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». أخرجه مسلم.
قال المناوي: "قال بعض الكاملين: يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير فإنه يحتاج أولا إلى علم الشريعة وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس وعلم الزمان وعلم المكان وعلم الترجيح. إذا تقابلت هذه الأمور فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا فينظر في الترجيح فيفعل بحسب الأرجح عنده، مثاله: أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال فيشير بأهمهما، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها، فلذلك قالوا: يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل وفكر صحيح ورؤية حسنة واعتدال مزاج وتُؤَدَة وتَأَنٍّ، فإن لم تجمع هذه الخصال فخطؤه أسرع من إصابته فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة". فيض القدير (6/ 268) الناشر: المكتبة التجارية الكبرى- مصر.
ولما كان الأمر يتصل بالإمامة، وهي لها ضوابط خاصة في الفقه الإسلامي، كان الأولى أن نوضح تلك الخواص حتى لا نتعداها، ولنوفق بعد ذلك بين التعددية السياسية وبين هذه الخواص.
فالأصل في الإمامة أنها واجبة، لأن هناك من أعمال الشرع ما لا يتم إلا بالقوة كالجهاد والعدل وَرَدِّ المظالم، وهذه تحتاج إلى إمام يقود الناس لتحقيق ذلك، قال الله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ [البقرة: 30]. قال القرطبي: "هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمع له ويُطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ودليلنا قول الله تعالى: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ وقال: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض﴾ أي يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي. الجامع لأحكام القرآن (1/ 264 ) ط دار الكاتب العربي.
وورد في السنة «عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لا يَحِلُّ لِثَلاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ إلا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ.
قال الشوكاني: "وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِكُلِّ عَدَدٍ بَلَغَ ثَلاثَةً فَصَاعِدًا أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ؛ لأَنَّ فِي ذَلِكَ السَّلامَةَ مِنْ الْخِلافِ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى التَّلافِ، فَمَعَ عَدَمِ التَّأْمِيرِ يَسْتَبِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، وَيَفْعَلُ مَا يُطَابِقُ هَوَاهُ فَيَهْلِكُونَ، وَمَعَ التَّأْمِيرِ يَقِلُّ الاخْتِلافُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ، وَإِذَا شُرِّعَ هَذَا لِثَلاثَةٍ يَكُونُونَ فِي فَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ أَوْ يُسَافِرُونَ فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالأَمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى المسْلِمِينَ نَصْبُ الأَئِمَّةِ وَالْوُلاةِ وَالْحُكَّامِ". نيل الأوطار 8/ 265 (ط. الحلبي).
وقال ابن تيمية: "الْفَصْلُ الثَّامِنُ وُجُوبُ اتِّخَاذِ الإِمَارَةِ. يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلايَةَ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لا قِيَامَ لِلدِّينِ إلا بِهَا، فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلا بِالاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المسْنَدِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لا يَحِلُّ لِثَلاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ إلا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» فَأَوْجَبَ صلى الله عليه وسلم تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الاجْتِمَاعِ، وَلأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَوْجَبَ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ المنْكَرِ، وَلا يَتِمُّ ذَلِكَ إلا بِقُوَّةٍ وَإِمَارَةٍ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ وَنَصْرِ المظْلُومِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لا تَتِمُّ إلا بِالْقُوَّةِ وَالإِمَارَةِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ: «أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ الله فِي الأَرْضِ» وَيُقَالُ: "سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ بِلا سُلْطَانٍ". وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا يَقُولُونَ: "لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ" وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللهَ لَيَرْضَى لَكُمْ ثَلاثَةً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلاصُ الْعَمَلِ لله، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ المسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ». رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الإِمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى الله، فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا، بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ فِيهَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ لابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ أَوْ المالِ بِهَا". السياسة الشرعية ص 129 ط. وزارة الأوقاف السعودية.
والأصل في الإمام أنه يطاع من الأمة، ويحرم الخروج عليه، وقد وردت بذلك الأدلة، منها قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء: 59]، ومن السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية» أخرجه مسلم، والأحاديث في الباب كثيرة معلومة. وقد ذكر الإمام البخاري: باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» وَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني عَلَى الْحَوْضِ». ثم ذكر فيه حديث ابن مسعود، قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ». وحديث ابْن عَبَّاس: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». وحديث عُبَادَة: «بَايَعَنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ الله فِيهِ بُرْهَانٌ». وحديث أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: «أَنَّ رَجُلا أَتَى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا، وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي».
وفي شرح هذه الأحاديث قال ابن بطال: "في هذه الأحاديث حجة في ترك الخروج على أئمة الجَوْر، ولزوم السمع والطاعة لهم، والفقهاء مجمِعُون على أن الإمام المتغلَّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «سترون بعدي أثرةً وأمورًا تنكروها» فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأَمَرَهُمْ بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر علي بن معبد، عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا بد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له: البرة لا بد منها، فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفيء، ويجاهد بها العدو. ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس: «من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً». وفي حديث عبادة: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة» إلى قوله: «وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا». فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب في سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويُظهِر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وقد تقدم في كتاب الجهاد، وكتاب الأحكام هذا".اهـ.
وعلى الأمة الطاعة والنصرة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية؛ للنصوص السابقة.
قال أبو يعلى: وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم الطاعة، والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، والذي يخرج به عن الإمامة شيئان: الجرح في عدالته، والنقص في ذلك بما يقتضي صحة الإمامة، وتأولناه على أن هناك عذرًا يمنع من اعتبار العدالة حالة العقد، كما كان العذر مؤثرًا في الفاضل. الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 28، ط: دار الكتب العلمية).
وقال الماوردي: "وَإِذَا قَامَ الإِمَامُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ الأُمَّةِ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الله تَعَالَى فِي مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ". الأحكام السلطانية للماوردي (ص 19) ط. دار الكتب العلمية.
والأصل في الإمامة الدوام، فلا يجوز منازعة الإمام؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ولا ننازع الأمر أهله». ولا يعزل الإمام إلا إذا أخلَّ بشروط الإمامة، لكن إن كان هناك فتنةٌ تحدث من العزل فلا يجوز؛ لما علم ما يكون في الفتن من الشرور والمفاسد ما الله به عليم، فيحتمل الضرر الأصغر في مقابل دفع الضرر الأكبر. ولا نطيل بهذه المسألة لخروجها عن المقصود.
لكن إن كانت هناك مدةٌ معينةٌ في الدستور إذا انقضت بطلت الإمامة، فهذا ينظر فيه، إن كان هذا النص موجودًا قبل تولِّي الحاكم، فهو قد تولى الحكم بالبيعة المشروطة، فيجب عليه الوفاء بالشرط، ويستدل لها بحديث: «المؤمنون عند شروطهم».
وأما إن كان هو وضعه بعد توليه، فالعمل به لا يعد خروجًا عليه؛ لأنه هو الذي وضعه وارتضاه، لكن هذا يدخل في أنه قد عزل نفسه، والراجح جوازه؛ لأن الإمامة وكالةٌ عن المسلمين، فيجوز له تركُها بالاستعفاء وقبول أهل الحل والعقد ذلك، ويستدل له بفعل الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما، وسكوت أهل العلم على ذلك، بل ورد في الحديث إشارة إلى ذلك، وهو حديث: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين». [رواه البخاري].
قال ابن عابدين: (قَوْلُهُ وَتَصِحُّ سَلْطَنَةُ مُتَغَلِّبٍ) أَيْ مَنْ تَوَلَّى بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بِلا مُبَايَعَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَإِنْ اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ المارَّةَ. وَأَفَادَ أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بِالتَّقْلِيدِ. قَالَ فِي المسَايَرَةِ: وَيَثْبُتُ عَقْدُ الإِمَامَةِ إمَّا بِاسْتِخْلافِ الْخَلِيفَةِ إيَّاهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه، وَإِمَّا بِبَيْعَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ. وَعِنْدَ الأَشْعَرِيِّ: يَكْفِي الْوَاحِدُ مِنْ الْعُلَمَاءِ المشْهُورِينَ مِنْ أُولِي الرَّأْيِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ بِمَشْهَدِ شُهُودٍ لِدَفْعِ الإِنْكَارِ إنْ وَقَعَ. وَشَرَطَ المعْتَزِلَةُ خَمْسَةً. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ جَمَاعَةٍ دُونَ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ. اهـ (قَوْلُهُ لِلضَّرُورَةِ) هِيَ دَفْعُ الْفِتْنَةِ، وَلِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ» (قَوْلُهُ وَكَذَا صَبِيٌّ) أَيْ تَصِحُّ سَلْطَنَتُهُ لِلضَّرُورَةِ، لَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لا حَقِيقَةً. قَالَ فِي الأَشْبَاهِ: تَصِحُّ سَلْطَنَتُهُ ظَاهِرًا. قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: مَاتَ السُّلْطَانُ وَاتَّفَقَتْ الرَّعِيَّةُ عَلَى سَلْطَنَةِ ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ تُفَوَّضَ أُمُورُ التَّقْلِيدِ عَلَى وَالٍ، وَيُعِدُّ هَذَا الْوَالِي نَفْسَهُ تَبَعًا لابْنِ السُّلْطَانِ لِشَرَفِهِ وَالسُّلْطَانُ فِي الرَّسْمِ هُوَ الابْنُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَالِي؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الإِذْنِ بِالْقَضَاءِ وَالْجُمُعَةِ مِمَّنْ لا وِلايَةَ لَهُ. اهـ أَيْ لأَنَّ هَذَا الْوَالِيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ السُّلْطَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ إذْنُهُ بِالْقَضَاءِ وَالْجُمُعَةِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّهُ سُلْطَانٌ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ بُلُوغُ الابْنِ، لِئَلا يَحْتَاجَ إلَى عَزْلِهِ عِنْدَ تَوْلِيَةِ ابْنِ السُّلْطَانِ إذَا بَلَغَ. تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ أَنْ يُفَوَّضَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَالْفَاعِلُ: هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، لا الصَّبِيُّ؛ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُ لا وِلايَةَ لَهُ، وَضُمِّنَ يُفَوَّضُ مَعْنَى يُلْقَى، فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَإِلا فَهُوَ يَتَعَدَّى بِإِلَى (قَوْلُهُ فِي الرَّسْمِ) أَيْ فِي الظَّاهِرِ وَالصُّورَةِ (قَوْلُهُ كَمَا فِي الأَشْبَاهِ) أَيْ فِي أَحْكَامِ الصِّبْيَانِ، وَعَلِمْت عِبَارَتَهُ (قَوْلُهُ وَفِيهَا) أَيْ فِي الأَشْبَاهِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَيْضًا، وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا مَرَّ بِنَحْوِ وَرَقَةٍ فَافْهَمْ. وَذَكَرَ الْحَمَوِيُّ أَنَّ تَجْدِيدَ تَقْلِيدِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ لا يَكُونُ إلا إذَا عَزَلَ ذَلِكَ الْوَالِي نَفْسَهُ؛ لأَنَّ السُّلْطَانَ لا يَنْعَزِلُ إلا بِعَزْلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ. اهـ. قُلْت قَدْ يُقَالُ: إنَّ سَلْطَنَةَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِمُدَّةِ صِغَرِ ابْنِ السُّلْطَانِ، فَإِذَا بَلَغَ انْتَهَتْ سَلْطَنَةُ ذَلِكَ الْوَلِيِّ كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا. رد المحتار على الدر المختار(1/ 368) ط. إحياء التراث.
وقال الرُّحيباني: (وَلا يَنْعَزِلُ) الإِمَامُ (بِفِسْقِهِ) بِخِلافِ الْقَاضِي، لِمَا فِيهِ مِنْ المفْسَدَةِ، وَلا بِمَوْتِ مَنْ يُبَايِعُهُ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلا عَنْهُ، بَلْ عَنْ المسْلِمِينَ (وَيُجْبَرُ) عَلَى إمَامَةٍ (مُتَعَيِّنٌ لَهَا)؛ لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَاكِمٍ؛ لِئَلا تَذْهَبَ حُقُوقُ النَّاسِ. (وَهُوَ) أَيْ الإِمَامُ (وَكِيل) المسْلِمِينَ (فَلَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ) مُطْلَقًا كَسَائِرِ الْوُكَلاءِ (وَلَهُمْ)، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ (عَزْلُهُ إنْ سَأَلَهَا)؛ أَيْ: الْعُزْلَة بِمَعْنَى الْعَزْلِ؛ لا الإِمَامَة لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: "أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي". قَالُوا: لا نُقِيلُكَ (وَإِلا) يَسْأَل الْعُزْلَةَ (فَلا) يَعْزِلُونَهُ. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (6/ 265) ط. بيروت.
وأما حكم طلب الإمامة، ففيه تفصيلٌ، فإن كان الحزب يطلب السلطة العليا في الانتخابات الرئاسية، فهذا يرتبط بحكم طلب الإمامة العليا، وهو فرض كفاية، فإن كان لا يوجد إلا شخص واحد كفؤ لها، فقد وجب عليه طلبها، ووجب على الأمة قبوله وبيعته، ويجبر على القبول كسائر فروض الكفايات عند التعين، وإن كان يصلح لها جماعة، جاز لكل واحد منهم طلبها، ووجب على الأمة اختيار أحدهم، فإن امتنعوا جميعًا منه أثموا كما في سائر فروض الكفايات، ويكره لمن هو أهل أن يتقدَّم من هو أولى بها منه، ويحرم عليه طلبها إن كان غير صالح لها.
قال الشيخ زكريا الأنصاري: (بَابُ الإِمَامَةِ) الْعُظْمَى (وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ) كَالْقَضَاءِ؛ إذْ لا بُدَّ لِلأُمَّةِ مِنْ إمَامٍ يُقِيمُ الدِّينَ، وَيَنْصُرُ السُّنَّةَ، وَيُنْصِفُ المظْلُومِينَ، وَيَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا (فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ) لَهَا (إلا وَاحِدٌ) وَلَمْ يَطْلُبُوهُ (لَزِمَهُ طَلَبُهَا) لِتَعَيُّنِهَا عَلَيْهِ (وَأُجْبِرَ) عَلَيْهَا (إنْ امْتَنَعَ) مِنْ قَبُولِهَا، فَإِنْ صَلُحَ لَهَا جَمَاعَةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ صَلُحَ جَمَاعَةٌ لِلْقَضَاءِ وَسَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي بَابِهِ. أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/ 108) ط. دار الكتاب الإسلامي.
وقال في باب القضاء: (وإن صلح) له بفتح اللام وضمها (جماعة وقام) به (أحدهم سقط به الفرض) عن الجميع (وإن امتنعوا) منه (أثموا) كسائر فروض الكفايات (وأجبر الإمامُ واحدًا) منهم عليه لئلا تتعطل المصالح. أسنى المطالب (4/ 278).
وتأتي هنا مسألة اختيار المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن كل حزب سيقدِّم مرشحه، كما يقوم الناس بالانتخاب وإدلاء الأصوات للمرشحين، وهذا أيضًا فيه تفصيلٌ، فأما إذا كان كل حزب سيقدِّم مرشحه للرئاسة، فقد وجب عليه أن يقدِّم أفضل من لديه، أما الاختيار من أهل الحل والعقد، فقد وجب عليهم اختيار الأفضل وعدم العدول عنه؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لله مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ المؤْمِنِينَ». أخرجه الحاكم في المستدرك (7023) وصححه. وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابةً عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ذلك أكثر ما أخاف عليك، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ المسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ». صحَّحه الحاكم في المستدرك (7024).
لكن إن تم اختيار المفضول، فهل تنعقد البيعة؟ الجمهور على انعقادها؛ ويستدل لهم بمقولة الصديق يوم السقيفة: "قد رضيت لكم أحد الرجلين". وكذلك جعل عمر الشورى في ستة.
قال ابن بطَّال في شرح حديث السقيفة: "وقول أبي بكر: "قد رضيت لكم أحد الرجلين". هو أدبٌ منه، خشي أن يزكي نفسه، فيعد ذلك عليه... وفيه جواز إمامة المفضول إذا كان مِن أهل الغناء والكفاية، وقد قدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أسامة على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر". اهـ
وقال الماوردي: فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفَّحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلا وأكملهم شروطًا، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقَّفون عن بيعته، فإذا تعيَّن لهم من بين الجماعة مَن أدَّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافةَ الأمة الدخولُ في بيعته والانقيادُ لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يُجِبْ إليها لم يُجبَر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها. فلو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم لها اختيارًا أسنهما وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطًا، فإن بويع أصغرهُما سِنًّا جاز؛ ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجعُ أحقَّ، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحقَّ، فإن وقف الاختيار على واحد من اثنين فتنازعاها، فقد قال بعض الفقهاء إن التنازع فيها لا يكون قدحًا مانعًا، وليس طلب الإمامة مكروهًا، فقد تنازع فيها أهل الشورى، فما رد عنها طالب ولا منع منها راغب، واختلف الفقهاء فيما يقطع به تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما، فقالت طائفة: يقرع بينهما ويقدم من قرع منهما. وقال آخرون: بل يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعة أيهما شاؤوا من غير قرعة، فلو تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة، فبايعوه على الإمامة، وحدث بعده من هو أفضل منه، انعقدت ببيعتهم إمامة الأول، ولم يَجُز العدول عنه إلى من هو أفضل منه؛ ولو ابتدؤوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر، فإن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبًا أو مريضًا، أو كون المفضول أطوع في الناس، وأقرب في القلوب انعقدت بيعة المفضول، وصحَّت إمامته، وإن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته وصحَّت إمامته، فذهبت طائفة منهم الجاحظ إلى أن بيعته لا تنعقد؛ لأن الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مما ليس بأولى كالاجتهاد في الأحكام الشرعية. وقال الأكثر من الفقهاء والمتكلمين: تجوز إمامته وصحَّت بيعته، ولا يكون وجود الأفضل مانعًا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرًا عن شروط الإمامة، كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل، لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق، فلو تفرَّد في الوقت بشروط الإمامة واحد لم يشرك فيها غيره تعيَّنت فيه الإمامة ولم يجز أن يعدل بها عنه إلى غيره. الأحكام السلطانية للماوردي (ص ط. دار الكتب العلمية.
والخلاصة: أنه يجوز التعددية السياسية داخل نظام الدولة الإسلامية، ولكن بالضوابط المذكورة.
والله سبحانه وتعالى أعلم