السلام عليكم كيف أقوم بتفسير الاية التالية لصديقي الأمريكي غير المسلم: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29). حيث إن أهل الكتاب هنا تشير إلى النصارى واليهود. كيف يكون ذلك حبا. أيضا هناك في القرآن الآية: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39). إن هذه الآيات في القرآن تحض على أداء حق الله وليس عن حب الله للناس. شكراً.
أخي الكريم.. هذا غير صحيح، فليس المقصود من كلمة (صاغرون) هنا الإذلال أو الاحتقار، وهذا الفهم رده العلماء المحققون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله ولا أصل له في السنة النبوية الكريمة، ولا فعله أحد من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا من الأذى المنهي عنه شرعًا، كما يقول العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته (4/202)، والجزية إنما تكون في مقابلة حماية المسلمين لأهل الذمة في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وعقد الذمة في مصطلح الفقهاء عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بأمان الجماعة الوطنية الإسلامية وضمانها، بشرط بذلهم الجزية، وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شئونهم الدينية. وعقد الذمة ليس اختراعا إسلاميا، وإنما هو عقد وجده الإسلام شائعا بين الناس، فأكسبه مشروعية بإقراره إياه، وأضاف إليه تحصينا جديدا بأن حوَّل الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبدا لا يقبل الفسخ حماية لأهل غير الإسلام من الأديان، من ظلم ظالم أو جور جائر من حكام المسلمين. والجزية لم تكن ملازمة لهذا العقد في كل حال -كما يصرح بذلك تعريفه- بل لقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من غير أهل الإسلام مشاركة المسلمين في الدفاع عن الوطن، لأنها بدل عن الجهاد (كما يقرر الإمام ابن حجر في شرحه للبخاري، فتح الباري (6/38) وينسب ذلك إلى جمهور الفقهاء). ولذلك أسقطها سراقة بن عمرو عن أهل أرمينية سنة 22 هجرية، وأسقطها حبيب بن مسلمة الفهري عن أهل أنطاكية، وأسقطها أصحاب أبي عبيدة بن الجراح -بإقراره ومن معه من الصحابة- عن أهل مدينة على الحدود التركية السورية اليوم عرفوا باسم -الجراجمة- وصالح المسلمون أهل النوبة، على عهد عبد الله بن أبي سرح، على هدايا يتبادلها الفريقان في كل عام، وصالحوا أهل قبرص في عهد معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم (والخراج هنا ضرائب تفرض على من يجوز من الفريقين ديار الآخر). وغير المسلمين من المواطنين -اليوم ومنذ أكثر من قرن- في الدول الإسلامية يؤدون واجب الجندية، ويسهمون بدمائهم في حماية الأوطان، فهم لا تجب عليهم جزية أصلا في النظر الفقهي الصحيح، ولذلك فإن النظر الفقهي الصحيح يجعلهم مواطنين لا ذميين. ولم تكن الجزية عقابًا من المسلمين لعدم دخول الذمي في الإسلام، ولا منة عليه بتركه حيا، ويشهد بذلك باحث مستشرق إنجليزي هو السير توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" الذي يقول فيه ما نصه: "لم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة -يعني الجزية- على المسيحيِّين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظنّ، لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدُّونها مع سائر أهل الذمة وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين". ولما قدّم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم"، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا". ورد المسلمون الجزية لأهل الذمة عند عدم تحقق الأمن لهم، كما حصل في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه؛ لما حشد هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين، كان لزامًا على المسلمين نتيجة لما حدث، أن يركِّزوا كل نشاطَهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلمّا علم بذلك أبو عبيدة رضي الله عنه وكان قائد المسلمين، كتب إلى عمّال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردُّوا عليهم ما جُبِيَ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إِنَّما رددنا عليكم أموالَكم؛ لأنه بلغَنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليكم". وبذلك رُدت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيءًا وأخذوا كل شيء بقي لنا". والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من آذى ذميا فقد آذاني)، والأذى أعم من أن يكون نفسيا أو بدنيا، والشرع أمر بحسن معاملة أهل الكتاب الذين لم يخونوا عهدنا ولم يعتدوا علينا فقال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، وقال سبحانه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم)، بل إن الله تعالى أمر بالعفو عمن يودون رد المسلمين عن دينهم إلى الكفر فقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير).. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على حسن المعاملة والبر والخلق الحسن. أما الآية الأولى الواردة في السؤال فإنما نزلت بعد غزوة مؤتة في حق الرومان الذين كانوا قد جمعوا لدولة الإسلام جيوشهم وحاولوا القضاء عليها بعد أن عجز المشركون عن ذلك، وبعد أن انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها. فكانت هذه الآية في حق من لا يرجى منهم عهد ولا وفاء، والذي عليه المحققون أن المقصود بالصغار في الآية هو نفس إعطائهم الجزية بعد خضوعهم لدولة المسلمين ونظامهم العام، في مقابلة حمايتهم وأمنهم وسلامتهم، وليس المقصود بالصغار أخذ المال منهم بطريقة مهينة؛ فإن هذا يتنافى مع ما جاء في الكتاب والسنة من حسن معاملة أهل الكتاب وأهل الذمة. وكذلك الحال في الآية الثانية؛ فقد نزلت في المشركين حين جمعوا الأموال والعدة والعتاد للاعتداء على المسلمين في غزوة أحد؛ فنزلت هذه الآية الكريمة تحث المسلمين على رد الطغيان ودفع العدوان، أي أن الآية تتحدث عن المشركين الطغاة الذين يسعون للقضاء على المسلمين وإبادتهم بكل وسيلة، لا في غير المسلمين مطلقًا؛ لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش وحسن الجوار والمعاشرة (وقولوا للناس حسنا)، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) كما سبق تقريره.
والله سبحانه وتعالى أعلم