وبعد وصوله تجرد ثانياً عما عنده من حوائج السفر، وأنفق ماله كله على المستحقين ممن حضر، فأخذ الطريقة العلية النقشبندية بعمومها وخصوصها، ومفهومها ومنصوصها، على شيخ مشايخ الديار الهندية، وارث المعارف والأسر المجددية، سباح بحار التوحيد، سياح قفار التجريد، قطب الطرائق، وغوث الخلائق، ومعدن الحقائق، ومنبع الحكم والإحسان والإيقان والرقائق، العالم النحرير الفاضل، والعلم الفرد المكمل الكامل، المتجرد عما سوى مولاه، حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي قدس سره.
واشتغل بخدمة الزاوية مع الذكر والمجاهدة، فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان، وحل منه محل إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم، وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم، فلم تكمل عليه السنة حتى صار الفرد الكامل العلم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولا غرو فإن من السالكين من وصل في لحظة، ومنهم من وصل في ساعة، ومنهم من وصل في يوم، ومنهم من وصل في اسبوع، ومنهم من وصل في شهر، ومنهم من وصل في سنة، ومنهم من وصل في سنين، كما هو مذكور في كتاب منهاج العابدين.
وشهد له شيخه عند أصحابه وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية، وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء، الأتمين المعروفين عند الأولياء، وأجازه بالإرشاد، وخلفه الخلافة التامة في الطرائق الخمسة: النقشبندية والقادرية والسهروردية والكبروية والجشتية.
وأجاز له جميع ما يجوز له روايته من حديث وتفسير وتصوف وأحزاب وأوراد، واجتمع بإشارة من شيخه قدس سره بالعالم الفاضل، المدرس الواعظ الصوفي الكامل، صاحب التآليف النفيسة في التفسير، ورد الروافض بأبلغ تحرير، الشيخ المعمر المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي ابن العالم
العامل، المولى الكامل، ولي الله الحنفي النقشبندي رحمه الله تعالى. فأجاز له روايات الصحاح الستة وبعض الأحزاب، وكتب له إجازة لطيفة وصفه فيها بقوله: صاحب الهمة العلية في طلب الحق.
ثم أرسله بعد ملازمته سنة بأمر مؤكد لم يمكنه التخلف عنه إلى هذه الأقطار والبلاد ليرشد المسترشدين، ويربي السالكين، بأتقن إرشاد وشيعه بنفسه نحو أربعة أميال، ليأتي أوطانه ممتثلاً للأمر الواجب الامتثال، سائراً في طريقه براً مدة وبحراً نحو خمسين يوماً، لم يطعم طعاماً فيه ولم يشرب الماء متغذياً متروياً بالعبادة والذكر والمشاهدة والزهادة، حتى خرج من بندر مسقط إلى نواحي شيراز ويزد وأصفهان، يعلن الحق أينما كان، وكم مرة تجمع بعض الروافض لضربه وقتله، بعد عجزهم عن أجوبة أدلة عقله ونقله، فهجم عليهم بسيفه البتار، فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار، ثم أتى همدان وسنندج فوصل السليمانية عام ألف ومائتين وستة وعشرين باستقبال أعيان وطنه معززاً مكرما، فقدم في تلك السنة بإشارة من شيخه مدينة الزوراء، ليزور السادة الأولياء، فنزل في زاوية الغوث الأعظم، سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره الأقوم، وابتدأ هناك بإرشاد
الناس، على أحكم أساس، فمكث نحو خمسة أشهر ثم رجع إلى وطنه بشعار الصوفية الأكابر، مرشداً في علمي الباطن والظاهر، ولما اطردت سنة الله في الذين خلوا من قبل، أن يجعل حساداً لكل من تفرد بالفضل، وكلما كان الكمال والمحبوبية أسد، كان الإنكار والحسد أشد، هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعداوة والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان، بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو بريء من كلها بشهادة البداهة والعيان، فلم يقابل صنيعهم الشنيع، إلا بالدعاء لهم وحسن الصنيع، فلم تخب نارهم، وما زاد إلا شرهم وعوارهم. "
فخلاهم وشأنهم في السليمانية، ورحل إلى بغداد عام ألف ومائتين وثمانية وعشرين مرة ثانية، فألف الذي تولى كبر البهتان من المنكرين رسالة عاطلة من الصدق والصواب، ومهرها بمهور إخوانه المنكرين مشحونة بتضليل القطب المترجم وتكفيره ولم يخشوا مقت المنتقم الشديد العقاب، وأرسلها إلى والي بغداد سعيد باشا يحرضه على إهانته، وإخراجه من بغداد بسعايته، فبصره الله تعالى بدسائسهم الناشئة من الحسد والعناد، وأمر بعض العلماء بردها على وجه السداد، فانتدب له العالم النحرير، الدارج إلى رحمة الله القدير، محمد أمين أفندي مفتي الحلة سابقا، وكان مدرس المدرسة العلوية لاحقا، بتأليف رسالة طعن بأسنة أدلتها أعجازهم فولتهم الأدبار ثم لا ينصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ومهرت بمهور علماء بغداد، وأرسلت إلى المنكرين فسلقتهم بألسنة حداد، فخبت نارهم، وانطمست آثارهم، ورجع بعد هذه الأمور إلى السليمانية، محفوفاً بالكمالات الإحسانية،
وبالجملة انتفع به خلق كثيرون من الأكراد، وأهل كركوك واربل والموصل والعمادية وعينتاب وحلب والشام والمدينة المنورة ومكة المعظمة وبغداد، وهو كريم النفس حميد الأخلاق باذل الندى حامل الأذى حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم، يأخذ بالأحوط والعزائم، يتكفل الأرامل والأيتام، شديد الحرص على نفع الإسلام." اهـ