من طرف خادمة الحبيب المصطفى الإثنين مارس 04, 2013 12:15 pm
or=red]]«المصرى اليوم» تنفرد بحوار خاص مع الدكتور على جمعة «مفتى الجمهورية» قبل تركه منصبه: أشتاق إلى أنوار «القدس».. ولست نادماً على زيارتها
هل حققت فضيلتكم كل ما تمنيته فى دار الإفتاء؟- لله تعالى الفضل والمنة فى كل فضل منَّ الله تعالى به علينا، فى الفترة الماضية وفقنا الله لجعل دار الإفتاء المصرية مؤسسة بمعنى كلمة مؤسسة، وفصل المؤسسة عن الأشخاص، والحمد لله الذى وفقنا لهذا، وإنه لكى يتم تحويل العمل بأى مؤسسة من العمل الإدارى إلى العمل المؤسسى لا بد من عدة أشياء، منها الاستفادة من إمكانات تلك المؤسسة بالداخل والخارج، بما يخدم الإسلام والمسلمين، وإنشاء الإدارات والأقسام المتخصصة، والتعاون مع كل المنظمات والهيئات العربية والإسلامية، ووضع الخطط المستقبلية التى تناسب المرحلة القادمة، وعدم اختزال المؤسسة فى الشخص، واستطاعت الدار أن تنقل خبراتها العلمية والإدارية، وتقدم كل أشكال الدعم لتلبية احتياجات مسلمى العالم، من خلال التعليم والتدريب والإرشاد فى المجالات الشرعية، وإنشاء حلقات وسبل للتواصل الدائم والمستمر بينها وبين المؤسسات الشرعية فى الدول الإسلامية والغربية، من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية والوسطية المعتدلة والتصدى لأى محاولات لنشر الأفكار غير الصحيحة.
■ هل هناك رؤية مستقبلية لدار الإفتاء المصرية فى المرحلة القادمة لبث روح التوافق بين المصريين؟
- دار الإفتاء تسعى بإذن الله- تعالى- فى الفترة القادمة لإعادة ثلاثة مناح إلى الشارع المصرى والعربى، وهى «العلم، والدعوة، والعبادة» بطريقة صحيحة، وسنبدأ أولاً بنشر المنهج الوسطى فى المجتمع والعمل على ألا تنتشر الأفكار التى تقدم التدمير على التعمير والتى تقدم المساجد على الساجد. نحن نريد تقديم الوعى قبل السعى والبناء والتعمير لا التدمير، وهذه المناحى الثلاثة (العلم الصحيح، والعبادة الصحيحة، والدعوة الصحيحة) هى التى ستكون برنامجاً للاتصال مع الجماهير لنقل المنهج الوسطى الذى هو نموذج يحتاج إليه العالم كله الآن.
■ وهل ساهمت الدار فى حل بعض القضايا المطروحة فى الفترة الحالية؟
- دار الإفتاء حريصة على أن تكون حاضرة فى كل القضايا التى تهم المسلمين، وأن تظهر للناس الأحكام الشرعية لبعض القضايا والظواهر الاجتماعية التى تجدُّ فى المجتمع من حين لآخر، وفى الفترة الأخيرة، رصدنا بعض الظواهر السلبية فى المجتمع، وخرجت بعض الفتاوى التى حاولنا من خلالها القضاء على تلك السلبيات، ومنها فتاوى مواجهة السلوكيات الخاطئة فى المجتمع، مثل احتكار السلع وغلاء الأسعار وبيع الدقيق المدعم، وكذا حرمة بيع أدوية التأمين الصحى لغير المستحقين، والضرب المبرِّح للتلاميذ وغيرها من القضايا، أيضًا كانت هناك فتاوى تدعو إلى التكافل الاجتماعى، مثل فتاوى الغارمين، وجواز استخدام المسلمين أموال الصدقات من غير المسلمين والعكس، وأيضًا تحاول الدار من خلال إداراتها التواصل مع الأمة فى مواسم الحج والعمرة والصيام، وتقديم الرأى والمشورة لحسم بعض المسائل الخلافية والجدلية التى تظهر على الساحة الإسلامية، وتنشر هذه الآراء من خلال كتيبات توزع مجانًا على المسلمين لتوعيتهم بأحكام دينهم وعباداتهم فى مواسم الخير.
■ هل فضيلتك تشعر بالندم على زيارة القدس؟
- القدس بلادنا وواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى البغيض، ولا يمكن أن نفرط مطلقاً فى بلادنا. زيارتى للقدس هذه السنة كانت لأن خطة قوات الاحتلال الإسرائيلى آنذاك كانت «تهويد القدس»، وهذا لا يرضى أى أحد من المسلمين او المسيحيين، ولا أى أحد من العرب الذين جعلوا القدس راية لهم.
نحن متفقون جميعا على هذا المعنى: القدس رايتنا وحقنا، ولا يمكن التفريط فيها، وهى عاصمة الدولة الفلسطينية التى نسعى لإقامتها. القدس هى القدس فى كل الأديان، إذاً هذا محل اتفاق، وفى ظل هذا ذهبت إلى القدس، ولو أن ذهابى إلى القدس كان لسبب آخر، وهو معونة أهل القدس، ولذلك رأينا أهالى القدس وهم يخرجون فى مظاهرات لتأييدنا والهتاف لهذا الوافد الجديد.
أناس كثيرون يتكلمون عنها فى الكتب، وتخادع أو لا تعرف الحقيقة التى كانت موجودة فى القدس، وهى مليئة الآن باليهود فى كل مكان من العالم يبيعون ويشترون، وليس فيها من يعين أهلها من المسلمين والمسيحيين على أن يبيع شيئاً من الرموز الإسلامية أو المسيحية، تخيل أن العربى يضطر لبيع الطقوس والعلامات والرموز اليهودية، لأن أحداً من المسلمين لا يزوره ولا يعاونه ولا يسانده.
■ ما الذى يمنع زيارة القدس من وجهة نظر فضيلتك إذاً؟
- الذى يمتنع، ويدعو الى عدم زيارة القدس قد لا يكون لديه المعلومات الكافية، فنحن ذهبنا لوجه الله- تعالى- كـ«بشرى» لأن ندخل القدس بعد أن يحررها الله- سبحانه وتعالى- من براثن الاحتلال الإسرائيلى.
ونحن جمعنا من زار القدس فى الماضى تحت الاحتلال «الصليبى» وفى الوقت المعاصر تحت الاحتلال «الصهيونى الإسرائيلى» وجمعنا أكثر من أربعمائة صفحة بأولئك الذين زاروا القدس.
إذن من يدعى أيضا الالتفاف بعدم الذهاب هو مخطئ، ولا يعرف الواقع، ونحن نعلمه أنه ليس هناك إجماع، وأن الصوت العالى هو الذى يسود، ولذلك لما رجعت لم يستقبلنى أحد إلا مهنئاً، ومن فضل الله علىَّ أن جعلها بعد دعوة دعوتها فى يوم الجمعة بأن أذهب للقدس، وجمع لى الأقداس الثلاثة فى عام واحد، فذهبت إلى القدس، ثم إلى حضور غسل الكعبة فى شعبان، ثم ذهبت الى الحج، ثم إلى زيارة المسجد النبوى الشريف فى المدينة المنورة.
■ هل فضيلتك تشعر بالندم على هذه الزيارة؟
لا طبعا، لأننى متشوق لأنوار القدس، التى حرمونا منها.
■ هل لو أتيحيت لك الفرصة لزيارة القدس مرة أخرى ستزورها؟
- بالطبع نعم، ولو مليون مرة، وأنا متشوق لأنوارها، ولن يذهب إلى القدس أحد من الناس إلا وقد جُذب إليها، كما يُجذب الى الحرمين الشريفين.
■ وبماذا ترد على من يقول إن هذه الزيارة وغيرها تعد اعترافاً بمشروعية الاحتلال الإسرائيلى؟
- هل هذا حدث؟ هل أنا أعطيت مشروعية للاحتلال الإسرائيلى الذى يحتل القدس والبلاد والعباد، منذ أكثر من ستين سنة، هل هذا حدث فى ظل هذا الظلم البيّن لأبنائنا وإخواننا فى القدس، وحينما ذهبت إلى القدس فتحت «كورس» الإمام الغزالى الذى أنا أمين عليه فى المسجد الأقصى، حيث كان الإمام الغزالى يكتب إحياء علوم الدين: نحن نحيى تراث الأولين، ونسير فى نور السلف الصالح، ونحن- والحمد لله رب العالمين- نتمتع بسنة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحن ضد أى عدوان وطغيان يسببه هذا الاحتلال البغيض.
■ وماذا عن وجهات النظر السياسية التى ترفض زيارة القدس؟
- تختلف وجهات النظر السياسية، لكننى أصف وجهة النظر السياسية التى ترفض الذهاب إلى القدس وزيارتها بأنها لاتعرف الواقع.
■ وماذا عن الوضع الحالى فى مصر.. وهل ما زلت متفائلا بمستقبل مصر؟
- هذا هو مبدئى الذى لا أغيره، فمصر أكبر من كل هذه الأحداث، وإن كانت مؤلمة وسوف تصل مصر إلى «المنحة» ولكن كل الذى يؤلمنا أن تتأخر هذه المنحة، فبدلا من أن تتحقق فى شهور قد تتحقق فى سنوات، وهذا الذى يؤلمنا، ونحن عندما نحتفظ بالأمل فنحن نرجو فى وجه الكريم أن يخرجنا من هذا المضيق، وأن تنتهى هذه المآسى، وأن يخرجنا إلى المنحة التى نريدها بالعمل والأمل.
■ وماذا عن قرض صندوق النقد الدولى.. وهل توجد به شبهة ربا؟
«لا ربا فى الفلوس، ولو راجت رواج النقدين» كما ذهب إلى ذلك الأئمة الأربعة، أما هذه المزايدات التى لم تقرأ فى الفقه الإسلامى وأرادت نمطاً معيناً من تكييف الحكم لست معها.
■ إذاً فضيلتك ترى أنه مباح ومشروع؟
- لأنه ليس قرضاً أصلاً، وإنما «مشاركة»، وتسميته بالقرض «خطأ» لأننا شركاء فى هذا البنك، وهو يعطينا هذا المال على سبيل التمويل، فتسميته ابتداء بـ«القرض» كمن يسمى «الخروف » خنزيرا، ويحرم أكله، وهناك فرق كبير بين القرض والتمويل.
■ وماذا عن مشروع قانون «الصكوك» التى تنوى الحكومة طرحه.. وهل تؤيده؟
- هى تحتاج إلى إنضاج، وأيضا بعد الإنضاج تحتاج إلى التدريب فيجب علينا أن ندرب القائمين عليها حتى لا تتحول إلى مأساة.
■ إذاً فضيلتك ترى أنها قد تكون حلاً للأزمة الاقتصادية الراهنة؟
- نعم، إذا نضجت.
■ هل هناك تعاون بين دار الإفتاء ومؤسسات الدولة.. وكيف ترون مستقبل الدار؟
- بالطبع هناك تعاون بين الدار والمؤسسات الأخرى، من أجل فهم صحيح للواقع الذى تصدر فيه الفتوى، ومن أجل أن نكون قد وقفنا على كل الجوانب، لذلك استعنا بأكاديميات البحث العلمى عن طريق إجراء الكثير من البروتوكولات مع مجموعة من المؤسسات العلمية والأكاديمية، مثل المركز القومى للبحوث، وجامعة عين شمس، ودار الكتب المصرية، ومعهد الخدمة الاجتماعية، والبنك المركزى، وغيرها. وهذه البروتوكولات تخول لأمانة الفتوى الاستعانة بالخبرة العلمية لهذه الهيئات عند الاحتياج إليها، كل فى تخصصه؛ لضمان أن تخرج الفتوى على أساس علمى مؤصل مبنى على تصور صحيح مرتبط بالواقع، لأن الفتوى مركبة من الحكم الشرعى والواقع.
أما بخصوص التطوير فيها، فمازال مستمراً، حيث قمنا بتطوير وإنشاء العديد من الأقسام داخل الدار لكى تلبى حاجة المجتمع منها إدارة الحسابات الشرعية، ولجنة فض المنازعات، والتعليم عن بعد وتدريب المبتعثين، والتعاون مع الهيئات والمؤسسات الدينية فى العالمين العربى والإسلامى، من أجل الوقوف على صحيح الدين ونقل خبرات الأزهر الوسطية فى أرجاء العالم.
■ ما رأى فضيلتكم فى الفتاوى التى تخرج عن البعض، والتى تُحدث الكثير من البلبلة، وسط ما نعانى منه اليوم من فتاوى متضاربة؟
- هذه الحالة نطلق عليها فوضى فى الخطاب الدينى، وقد أحدثها بعض الأشخاص الذين لا يعبرون إلا عن أنفسهم، وليس عن جهة رسمية، وأحدثوا فوضى فى الخطاب الدينى، فأنت تجد أحدهم يتحدث عن الدين وإذا بك أمام متشدد، وتذهب للآخر فتجده متسيبًا، وتجد ثالثاً وسطاً ورابعاً يحصر الدين فى الروحانيات وخامساً يحصر الدين فى السياسة، وهكذا، ما يخلق حالة لدى الناس من البلبلة من كثرة هذه الاختلافات فى الخطاب الدينى، لذلك أطلقنا على هذه الحالة فى أدبياتنا «فوضى للفتاوى» لكنها ليست فوضى للفتاوى بالذات، إن فوضى الفتاوى تحدث عندما نسمى الإجابة عن أى سؤال بأنها فتوى، مثلاً عندما يسألنى أحد عمن كان مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى الغار، فهذه ليست فتوى، وقس الأمر على ذلك، والناس تسميها فتوى، ونحن وراءهم نسميها كذلك، ومن هنا نؤكد أن الفتوى أمر يتعلق بالعمل، والتفريق بين المسائل والقضايا وبين الرأى والفتوى وإجابة السؤال أمر مهم جدًّا.
■ هل من الممكن أن يؤسس المفتى فى أى دولة فتواه على ضوء اعتبارات سياسية خدمة لهذا الاتجاه أو ذاك؟
- المفتى يؤسس فتواه وفقًا للشرع ومصالح الناس، لا على أى اعتبار آخر، فالإفتاء منهج وطريق واضح محدد يتعلق بمصادره وطرق البحث وشروطه، كما أن أصل الفتوى به ثلاثة أركان هى:« المصادر، والواقع الذى نسقط عليه الفتوى، وكيفية الوصل بينهما، فالواقع جزء من الفتوى وركن من أركانها، والوصل يتم عن طريق دراسة المصالح والمقاصد الشرعية ودراسة المآلات ما دام ستؤول إليه هذه الفتوى، ودائمًا ما نتحرى ذلك لأن هذه أصول الفتوى، وهذه هى الطريقة التى تخرج بها الفتوى.
■ هل هناك صفات خاصة ينبغى أن تتوافر فى الفقيه أو من يتولى الإفتاء؟
- الفقه يحتاج إلى شخص عالم فى الفقه والأصول، وهو يحتاج إلى شخص ماهر فى الصنعة، وصاحب ذهن قوى جدًّا، ولا يحتاج إلى شخص يحفظ نصوصًا لا يفهمها، أو من لا يعرف شيئًا عن واقع الحياة، هو لا يحتاج لكمبيوتر يحفظ، ولكنه يحتاج إلى ذهن عبقرى مبدع يربط بين الأشياء كلها ربطًا صحيحًا، فيكون فى ذهنه مجموعة القواعد الفقهية التى توصل إليها الفقهاء، وهى نحو خمسين قاعدة أساسية وخمس قواعد أمهات، ويكون فى ذهنه المبادئ القرآنية العامة، وهى قرابة ثلاثين مبدأ، ويكون فى ذهنه أيضاً علم المقاصد الشرعية، وفقه المآلات، وفقه المصالح والمفاسد، وهذا كله يكون شبكة مترابطة فى عقل الفقيه، ويحقق له هدفين عظيمين هما: عدم الغياب عن الدين، وعدم الغياب عن العصر، وهذان الهدفان مهمان لكل مسلم بحسب درجته العلمية، وهذا هو التوازن الصعب على كثير من الفقهاء والمسلمين أيضًا، فبعضهم يغيب عن الدين، والبعض الآخر يغيب عن عصره.
■ كيف نتواصل مع الآخر رغم أن هذا الآخر لا يعترف بنا؟
- الإسلام دين يؤمن بالتعددية الثقافية داخل المجتمع الواحد، ويدعو إلى الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة، فالتعايش السلمى ونشر ثقافة الأمن والسلم الاجتماعيين كانا وما زالا سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية على مر العصور، وأنا أدعو لفتح باب الحوار بيننا وبين الآخر، على أسس علمية تتجاوز الحوار والتقريب النظرى إلى مشاريع عملية تخاطب الجماهير والمواطنين، خاصة أنه لا يزال هناك مساحات كبيرة يمكن الاطلاع عليها بين هؤلاء الأطراف فى الوطن الواحد.
■ وهل تعتقد فضيلتكم أن الطرف الآخر يستجيب؟
- يجب أن نستوعب أدب الخلاف ونطبقه كقيمة عملية، وهو ما نتمناه فى معالجة المسائل الدينية، خاصة تلك المعروضة على الرأى العام، والالتزام بميثاق شرف يلتزم به الكاتب فى مناقشته أو نقده بالأدب العالى لا بالإسفاف بالحديث، وهذه قيمة إسلامية نراها فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب معالى الأمور...» ومن الخلق النبوى الشريف أنه لم يكن سبّابًا ولا لعّانًا ولا فاحشًا ولا بذيئًا ونهانا الله عن السخرية، لأنها لا تؤدى، ولا تضيف شيئاً ملموساً، وهذا ما يجب أن يتبعه الطرفان فى أصول الحوار.
■ الخطاب الدينى المضطرب يؤثر فى الأحداث التى تمر بها الأمة الإسلامية.. وهناك من ينادى بتغييره، فما رأى فضيلتكم؟
- الشريعة الإسلامية تعتبر التجديد نعمة من نعم الله علينا، بل إن التجديد فى الدين أمر واجب التنفيذ، فالتجديد فى الدين نعمة يمن الله بها على هذه الأمة الخاتمة، ومن هذا قول النبى: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها»، وتجديد الخطاب الدينى موجود وحاضر طول تاريخ الإسلام، كل زمن حسب مقتضياته وأدواته، وطبقًا لظروفه وأحواله، وهذا ما جعل الدين صالحًا لكل زمان ومكان، لكن للأسف فى العصر الحاضر صار لمصطلح التجديد دلالات سلبية عند كثير من الملتزمين التراثيين، لما شاع عندهم من أن التجديد معناه التفلت من تكاليف الشرع كلها أو بعضها أو مخالفة ما استقر عليه العلماء المخلصون، أو أن المراد من التجديد هو الانتقاء من النصوص الشرعية ما يتفق والأهواء والمصالح الشخصية، أو أن التجديد يشمل الثوابت والمتغيرات وغير ذلك مما شاع عند العامة من المتدينين.
وحتى نزيل ذلك اللبس من نفوس المتخوفين نقول إن لفظ التجديد ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية بمعنى البعث والإحياء والإعادة، وليس بمعنى الإنشاء والخلق، وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية عند علماء المسلمين، وبالنسبة لتجديد الخطاب الدينى، فالمقصود به تجديد القوالب والوسائل التى تعرض الفقه الإسلامى بمعناه الشرعى والحضارى، وهو ما نسميه إدراك الواقع، ونستدل بهذا على أن الفهم فى النصوص متجدد، ولا يكون كذلك إلا عن طريق أدوات الفهم الواردة فى التراث مع ما يقتضيه الواقع من متغيرات وتعقيبات.
■ وكيف ننهض بالدعوة الإسلامية وبالدعاة أيضًا؟
- الكلمة كالبذرة، تلقيها فتنبت شجرة تؤتى ثمارها- إن شاء الله- وما يغذى هذه البذرة هو الإخلاص ووضوح الرؤية الذى بهما نستطيع النهوض بالدعوة، وكى يكون الداعية مؤهلاً عليه الاستمرار فى تلقى الدورات التدريبية والاطلاع على الكتب والمراجع اطلاعاً وافياً إلى جانب أنه يجب أن يعيش الداعية عصره، فيكون ملمًّا بما يحدث حوله، وما يستجد من أمور تستلزم منه التأقلم معها، بما يوافق الشريعة.
■ فضيلتكم دعوتم مؤخرًا إلى الابتعاد عن وسائل الترف من أجل بناء الاقتصاد المصرى من جديد، هل تعتقد أن هذه السياسة كفيلة بدفع عجلة الاقتصاد والتنمية والتطوير؟
- نعم، لأن هذا سيصب فى صالح الاقتصاد، ويعطيه الدفعة والقوة، لذلك لا بد من إعادة النظر فى نفقات الدولة، وفق ميزان الأولويات والمقاصد العامة والعليا، من خلال إعادة ترتيب الاحتياجات الخاصة بنا إلى مراتب تبدأ بالأهم فالمهم فالأقل أهمية (الضروريات، فالحاجيات، فالتحسينيات). والضرورى ما يستحيل العيش بدونه، والحاجىّ ما يشق العيش بدونه، والتحسينى ما لا يكمل أويجمل العيش إلا به، وما فوقه إسراف، والله لا يجب المسرفين، وبالتالى سنجد أن الدولة المصرية الجديدة مطالبة بأن تراعى هذا الميزان فى ظل محدودية الموارد واتساع الغايات، لأن القاعدة الاقتصادية والعقلية الكبرى ترى أنه فى ظل ضآلة الموارد التى تعم الحياة، فإن كل اختيار لابد أن ينطوى على تضحية، ولا يكون هذا إلا بترتيب أولويات، وتقديم الأهم على المهم، وعلى الدولة المصرية الجديدة أن تقلل- إن لم توقف- نفاقاتها فى كثير من المجالات التى لا تمثل ضرورات للمجتمع، وأن تعيد توجيهها إلى ضرورات الوطن، ولست أجد مثل التعليم ضرورة فى هذا الصدد، لا بد من توجيه نسبة ضخمة من الإنفاق العام إلى التعليم الأساسى والعام والعالى، الأزهرى والمدنى، فالتعليم هو بوابة العبور للقرن الحادى والعشرين، ولا حياة لنا إلا بالنهوض بالتعليم والبحث العلمى.
■ توجد بعض الاضطرابات التى تمر بها البلاد حاليًا. ما رأى فضيلتكم فى ذلك؟ وكيف نتغلب على هذا الأمر؟
- فى هذه المرحلة بالذات مستقبل الوطن يتعرض لاختبار صعب على المستوى السياسى والاقتصادى، لذا أنا أطالب الشعب كله بأن يتكاتف من أجل الوقوف أمام هذا الخطر وتخطى المرحلة الحالية بالعمل الجاد على كل المستويات وإغلاق كل أبواب الفتنة والمشاركة البناءة وعدم السماح لأى شخص ببث روح الفتنة بين صفوفهم.
■ وما رأى فضيلتكم فيما يحدث من اعتصامات وتظاهرات تقطع الطرق؟ وإلى أى مدى كفل الإسلام للمرء حق التعبير عن رأيه؟
- التظاهر السلمى والاعتصام لهما شروط تطبق فى جميع دول العالم، وهما حق من حقوق الإنسان، بشرط عدم إيذاء الآخرين أو الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، ويعدان وسيلة يستطيع المواطنون من خلالها التعبير عن آرائهم ومطالبهم المشروعة، أما من يقومون بقطع الطرقات والسكك الحديدية للمطالبة بحقوقهم، فهم بذلك يخرجون عن سلمية المظاهرات، ويؤذون باقى المواطنين بهذه الصورة التى لا يستطيعون الحصول على حقوقهم من خلالها، والأحاديث النبوية التى تحرم ذلك كثيرة منها أن المحافظة على الطريق هى أدنى شُعب الإيمان، لذا على جموع المصريين أن يتكاتفوا من أجل أن تتخطى مصر المرحلة التى تمر بها حاليًا، وأقول لمن يقطع الطرق، ويعطل مصالح البلاد والعباد. اتقوا الله فى أنفسكم وفى وطنكم، لأنكم تُعرِّضون أنفسكم لغضب الله والناس، وهذا لا علاقة له بالحرية والديمقراطية أو حق التظاهر.
■ ما الذى تراه فضيلتكم فى اللغط الذى دار حول أحكام القضاء مؤخرًا والتطاول عليها؟
- يجب أن نتجنب ثقافة الفوضى والهدم، ونعمل على إشاعة ثقافة البناء والتفكر والتدبر والاهتداء والاقتداء بالرسول- صلى الله عليه وسلم- كلنا يقدر القضاء المصرى، وندعو الله- تعالى- للقضاة بالثبات على الحق، كما ثبتوا دوماً، وألا يختل ميزان العدل فى يد أحدهم. إن القضاة المسلمين، عبر التاريخ كانوا يحكمون بما يرضى الله- سبحانه وتعالى- فتأسست دولة الإسلام منذ نشأت على العدل، وكان شعارها العدل أساس الأمة، ولقد وضع المسلمون القضاء متدرجًا؛ بحيث إذا أخطأ القاضى الأول ذهب الحكم إلى الذى يليه فيقره أو يغيره، ونحن نستقبل مستقبلاً نرجو أن يسود فيه العدل، فلا يكون المجتمع متيناً إلا إذا قام على قضاء محترم يحترمه الجميع، ومن فضل الله علينا أن رزقنا بقضاء يعتبر نبراساً للمنطقة كلها.
■ وما الذى يجب علينا لعلاج مشاكل الوطن؟
- لحل كل المشاكل التى تواجه الوطن لا بد أن يترجم الانتماء الحقيقى لهذا الوطن إلى أفعال للصالح العام، وليس لمصالح أخرى، علاوة على ضرورة وجود دائرة الاتفاق بين أبناء الوطن أكبر بكثير من دائرة الاختلاف، والتركيز على ما يجمع الناس لا ما يفرقهم: العمل -وهو ما سيصل بمصر إلى بر الأمان- والبعد عن إثارة الشائعات وترديدها، بما يضر بأمن وسلامة البلاد، وعدم التركيز على الأشياء التافهة التى تضر، والتركيز على ما ينفع البلاد والعباد، والبعد عن أى نوع من أنواع الصراعات التى من شأنها أن تفت فى النسيج الوطنى، والاهتمام بالعلم والبحث العلمى، لأنهما بمثابة القاطرة التى تجر مصر إلى مصاف الدول الكبرى، فمصر مليئة بالخيرات والخبرات التى سوف تسهم بإذن الله، وبقوة، فى بناء مصر فى عهدها الجديد.
[/center]